الثلاثاء، 30 يونيو 2009

جنون البقر أم جنون الرأسمالية

أثناء الضجة التي أثيرت حول انتشار مرض جنون البقر في بريطانيا، أصدر مبارك قرارا بوقف استيراد اللحوم من أوروبا، ومع ذلك كانت شحنة هائلة من اللحوم الأوروبية في طريقها إلى دخول البلاد. وكما أن جون ميجور في بريطانيا لا يتوقف عن إصدار تصريحات من نوع "لا قلق على حياة المواطنين من انتقال الفيروس...أو أن لحوم البقر صالحة تماما للاستهلاك وخالية من أي أمراض"، برغم توالي البحوث منذ بداية الثمانينات التي أكدت انتشار المرض على نطاق واسع وحذرت من تجاهل الحكومة لخطورة الموقف.

كذلك لا تختلف الطبقة الحاكمة وممثليها في مصر من زاوية إسقاط الاهتمام بصحة جماهير العمال والفقراء من حساباتها لصالح اعتبارات الربح والمنافسة. أبسط الدلائل وأكثرها فجاجة على ذلك أن بداية هذه الأزمة تعود إلى عام 1979 حين أعلنت إحدى لجان البحث الحكومية في بريطانيا تحذيراتها من استخدام لحوم الحيوانات الميتة في صناعة الأعلاف، ومع ذلك لم توقف الحكومة المصرية استيراد اللحوم ولم تكلف نفسها حتى بتجهيز فريق من الباحثين لتتبع المشكلة.

كان جون ميجور قد أعلن في ديسمبر 1995 أن لحوم البقر صالحة للاستهلاك وأن الحكومة لن تعتمد إلا على البرهان العلمي. ولكنه، في نفس الوقت، بذل كل ما في وسعه للتأكد من أن نتيجة البحث ستكون مؤيدة لوجهة نظر الحكومة، فاختار بنفسه فريق البحث الموكل إليه إصدار التقرير وأعاد صياغته ليؤكد أن اللحوم لا تمثل تهديدا لصحة الآدميين، متجاهلا بذلك سلسلة التحذيرات التي تصدر سنويا منذ 1979 وحتى تفاقم المشكلة والتي أشارت إلى احتمال موت جيل كامل من السكان بسبب المرض. وبرغم ذلك فقد أعلن دكتور ريتشارد لاسي أن مكمن الخطورة في استخدام لحوم الحيوانات الميتة في تحضير الأعلاف يرجع إلى أن ذلك يؤدي إلى انتقال المرض من الحيوانات الميتة إلى الأبقار وبالتالي إلى الإنسان. وقد تجاهلت الحكومة تحذيراته تماما بل وتعرض أيضا للعديد من الضغوط من شركات تصنيع اللحوم والأعلاف حتى أنه أعلن أن أحد زملائه كان مذعورا من إعلان نتائج البحث حيث أن الحكومة هي التي تتولى تمويل جهات البحث ويخشى العديد من الباحثين من فقد وظائفهم إذا تعارضت النتائج مع توجهات الحكومة، برغم ظهور حالات عديدة من الموت المفاجئ بسبب هذا المرض.

إن جنون البقر مرض عصبي يصيب الأبقار واكتشف في بعض الحيوانات في بريطانيا عام 1985. يهاجم المرض الجهاز العصبي ويؤدي إلى إحداث ثقوب في المخ ويحوله إلى ما يشبه الإسفنج. تصاب الحيوانات بعد ذلك بالعمى ثم الجنون وأخيرا تموت. تعتمد الأبقار في طعامها بشكل طبيعي على الحشائش والخضراوات، ولكن في السبعينات اكتشفت شركات تصنيع اللحوم البريطانية أنها تستطيع زيادة أرباحها إذا استخدمت البروتين الحيواني في علف الأبقار. واستخدمت بالفعل جثث الأغنام الميتة في صناعة العلف لتسمين الأبقار، وقد كانت الأغنام فعلا تعاني من مرض مشابه لجنون البقر قبل ذلك بفترة طويلة. وقد تعرض الناس لمخاطر هذا المرض ولكن يبدو انه انتقل إلى الأبقار متطورا إلى هذا النوع الأشد خطورة. وقد انتقل المرض إلى عدد من الحيوانات الأخرى مثل الفئران والقطط والخنازير والإوز ثم أخيرا إلى الإنسان.

ويرجع السبب وراء تجاهل حكومة المحافظين في بريطانيا لكل هذه المخاطر إلى أن صناعة اللحوم من أهم وأكبر الصناعات في بريطانيا، ويرتبط بهذه الصناعة أيضا صناعة الأعلاف التي تحتل مكانة رئيسية في الرأسمالية البريطانية. حيث تسيطر الشركات متعددة الجنسية والبنوك على معظم الإنتاج الزراعي والحيواني، وتنافس الصناعات الغذائية وتجارة التجزئة شركات البترول في حجمها وربحيتها. فمن بين أكبر عشر شركات في بريطانيا تعمل في هذا المجال، تزيد قيمة مبيعات شركة “يونيليفر” العملاقة عن دخل شركة الاتصالات البريطانية “بريتيش تيليكوم”. ويزيد حجم شركة إنتاج العلف البريطانية دالجيتي عن شركة بريتيش ستيل المتخصصة في إنتاج الصلب. ومثل هذه الشركات هي التي تحدد ما يأكله الجمهور وكيف يتم إنتاجه، سواء في المزرعة أو المجزر، وكيف يستهلك. كانت النتيجة تزايد الأرباح إلى جانب سلسلة من الفضائح المتعلقة بالغذاء - مثل مرض سالمونيلا الدواجن والبيض، وإعادة تدوير اللبن الفاسد، وتعديل تاريخ صلاحية اللحوم الفاسدة وبيعها كلحوم طازجة.

وقد تورطت الرأسمالية المصرية كذلك في سلسلة من الفضائح من هذا النوع، فمن صفقات الدجاج الفاسد في أواخر السبعينات التي كان وراءها توفيق عبد الحي وعصمت السادات، ومنتجات الألبان التي تضمنت نسبة عالية من الإشعاع الذي يسبب سرطان العظام في أواخر الثمانينات وتورطت فيها شركة القويري التي تنتج البسكويت، وكذلك حادثة موت 12 شخص من تأثير الفسيخ الفاسد في أوائل التسعينات، هذا إلى جانب تلوث الهواء في حلوان من جراء غبار الأسمنت بسبب عدم اهتمام محاجر الأسمنت بتغيير الفلاتر أو استخدام فلاتر حديثة حتى لا يتأثر حجم الإنتاج. ولا ينتهي الأمر عند هذا الحد حيث تمتلئ السوق المصرية بالأدوية الفاسدة والمنتهية الصلاحية، إلى جانب العديد من الفظائع الأخرى، فبالطبع لم يسلم السوق المصري من اللحوم المجنونة سعيا إلى تحقيق أقصى ربح ممكن.

وتحت ضغط تلك الشركات العملاقة، ما زالت الحكومة البريطانية تصر على المخاطرة بصحة الجماهير، وبدأت محلات التجزئة بدورها في تخفيض أسعار اللحوم مما يعني أن الفقراء يصبحون أكثر عرضة لجنون الرأسمالية. وفي نفس الوقت تطالب هذه الشركات الحكومة بصرف تعويضات المصابين من حصيلة الضرائب حتى لا تتأثر أرباحها. بينما يعلن جون ميجور أنه لا يوجد سبب لامتناع الناس عن استهلاك لحوم البقر. بل وصلت سخافة ادعاءاتهم إلى الحد الذي أعلنت فيه صحيفة الجارديان إن جنون البقر هو الثمن الذي يجب أن ندفعه مقابل اللحوم الرخيصة. بينما تؤكد الحقائق أن أسعار اللحوم مرتفعة في بريطانيا بالنسبة لباقي دول الاتحاد الأوروبي وأن هذه الشركات تلجأ إلى تخزين اللحوم بل والتخلص منها حفاظا على ارتفاع أسعارها.

إن مشكلة مرض جنون البقر مشكلة خطيرة تواجه الجماهير اليوم سواء في بريطانيا أو في مصر وغيرها، حيث أن أفقر شرائح المجتمع المصري تعتمد في غذائها من اللحوم على اللحوم المستوردة بسبب انخفاض أسعارها بالنسبة للحوم الطازجة. والحل الوحيد للسيطرة على هذا المرض هو زيادة الإنفاق على البحث العلمي لاكتشاف أسبابه والقضاء عليه. ولكن الحكومات الرأسمالية لن تنفق الكثير على هذا المجال وكذلك لن تفعل الشركات. فلم تنفق الحكومة البريطانية حتى الآن أكثر من 36 مليون إسترليني على البحث العلمي. ولم تتدخل أي من شركات إنتاج الأدوية العالمية في الموضوع. بل جاء على لسان مدير أحد الشركات المتعددة الجنسية الأمريكية " أنه يجب النظر إلى الاعتبارات الاقتصادية بواقعية" مؤكدا على أهمية جانب الربحية. إن الرأسمالية لن تتعامل مع هذه المشكلة بجدية لأنها دائما تضع الربح قبل حياة الجماهير.

وهذه الأمور ليست جديدة على الرأسمالية. فقد تكررت نفس النوعية من الأحداث في اثنين من أكبر فضائح هذا القرن المتعلقة بالصحة العامة. الأولى كانت عن غبار الأسبستوس الذي حذر الباحثين والأطباء من خطورته على حياة السكان وأصرت الحكومة والشركات الكبرى على أنه لا يشكل أي خطورة. ولم يقوموا بأي إجراءات وقائية حتى ارتفع عدد الضحايا إلى عشرات الآلاف من قتلى الأسبستوس. ومع ذلك ما زالوا يستخدمونه في المباني العامة والمدارس والأبراج السكنية، مدعين عدم وجود بدائل وأن حجم المخاطرة ضعيف، بينما كان الربح هو المحرك الأساسي وراء هذه الأكاذيب. وحتى الآن برغم اكتشاف كل هذه الفظائع ما زالت الشركات المنتجة للأسبستوس، وبدعم الحكومة، تحارب أي مطالبة بالتعويض للضحايا ويأملون في موتهم قبل سداد أي تعويضات.

ونفس الشيء ينطبق على الإيدز. فقد تجاهلت الحكومات الرأسمالية إعلان أن المرض ينتشر عن طريق كل أشكال الاتصال الجنسي وليس بين المثليين الجنسيين فحسب. بل أنهم أيضا سمحوا بانتقال وبيع الدم المصاب من بلد إلى آخر. وكان من الممكن إيقاف انتشار المرض من خلال حملة من التعليم الجنسي وتوفير الواقي الذكري مجانا. ولكن بدلا من ذلك سعت الحكومات إلى إلقاء اللوم على المثليين جنسيا وعلى العلاقات الجنسية خارج مؤسسة الأسرة وعلى متعاطي المخدرات. كانت النتيجة أن ملايين الفقراء في العالم اليوم يموتون بسبب هذه الكذبة.

ووراء كل هذه الفضائح يتضح أمرين في غاية الأهمية. هما أن الحكومات ووسائل دعايتها والشركات الكبرى تضع الربح فوق أي اعتبار آخر. وأننا يجب أن نناضل من أجل معاقبتهم جميعا على تجاهلهم الإجرامي لصحتنا.

ولكننا نحتاج إلى ما هو أكثر من ذلك، هو أن نناضل أيضا لإسقاط النظام الذي ينتج كل هذه الانتهاكات.

إن كل هذه الفضائح تكشف أمامنا بقوة أننا إذا أردنا أن نأكل ونتنفس ونعيش في أمان يجب أن نناضل من أجل الاشتراكية، من أجل مجتمع يقوم على تلبية الحاجات الإنسانية وليس على أساس تحقيق الربح.

ليست هناك تعليقات: