علي مقربة من كل شيء ويتحكم في كل شيء. هذا هو الوصف الدقيق لموقع وطبيعة عمل مبني أمن الدولة بوسط القاهرة. فعلي بعد أمتار من أهم الشوارع الرئيسية بالقاهرة. يقع مقر مباحث أمن الدولة بميدان لاظوغلي كأحد أبرز معالم الدولة الأمنية. المبني المحاط بسور ضخم يرتفع لعدة أمتار وبوابات حديدية مصفحة يفرض وجوده الأمني الثقيل علي محيط الميدان بشكل تام. فرغم أن عدة شوارع رئيسية مزدحمة تبدأ وتنتهي بميدان لاظوغلي، ورغم الزحام الشديد علي بعد أمتار من المقر المهيب. فإن حركة المرور والمشاة تقل شيئا فشيئا كلما اقتربنا من لاظوغلي. البعض يفضل " تجنب الشر والفأل السيئ " والبعض الآخر يبحث في الشوارع المجاورة عن عدة أمتار للتنفس بعيدا عن سطوة الجهاز الأمني الأكثر نفوذا في مصر. من ناحية أخري فإن المنطقة المحيطة بالمبني تكاد لا تخلو من مفارقات فالجار الوحيد لمقر مباحث أمن الدولة بلاظوغلي هو مبني وزارة العدل ورغم ذلك فإن مبني أمن الدولة يتصدر المشهد بشكل كاسح حيث تمتد 5 حواجز مرورية من مدخل الشارع وحتي نهايته فيما ينتشر جنود الحراسات والقوات الخاصة بزيهم الزيتي وأسلحتهم غريبة الشكل ليضفوا علي المشهد رهبة لا تحتمل. في نفسه الوقت تكتفي وزارة العدل بمدخل واسع بعيدا عن بوابات لاظوغلي المصمتة بحراسة لا تزيد علي عشرة مجندين وبوابة كاشفة.
يوميات لاظوغلي: حوارات المكان والبشر ماذا يفعل المصريون لتجنب «النحس»؟
الشوارع المحيطة بمقر مباحث أمن الدولة تحكي بسهولة عن طبيعة الحياة في حضن الداخلية. فالحوار بين المكان المغلق والمواطنين يدور حول فكرة واحدة وهي تجنب " النحس والمضايقات " التي تفرضها سمعة المبني الضخم بميدات لاظوغلي. يقول صابر - عامل مقهي - " ماحدش بيروح هناك خالص.. دي بلد تانية وناس تانية. لما يكون فيه ماتش ولا حاجة الناس بتطلع من سكات لحد ما يروحوا حتة أمان يهيصوا فيها.. كنا عاوزين نعلق علم مصر لما خدنا الكاس وصاحب القهوة قال بلاش أحسن الجماعة يزعلوا».
ورغم أنه لا توجد " أوامر " رسمية أو شفوية تفرض علي المصريين نمطا معينا للحياة بجوار لاظوغلي. فإن خبرة المواطنين بطبيعة الحياة حول هذه الأماكن تدفعهم بشكل غريزي لتجنب " وجع الدماغ " يقول سيد الأدور - بائع - ": لو سارت الأمور بشكل صحيح فشارع أمن الدولة هو الطريق المختصر لمكان عملي حيث أسعي علي رزقي منذ الصباح الباكر ومنذ أن وجدت فرصة عمل جيدة بأحد محال وسط البلد وأنا اتجنب المرور من الشارع كله " يضيف محمد " دا رزق وعلي الصبح كدا منظرهم في البرج والكلاب والبوابات يغير دم الواحد.. أنا بلف 3 شوارع لحد ما أوصل للمحل.. أتأخر أحسن ما اتنحس علي الصبح كده".
وبشكل عام تضع الداخلية لمركز ثقلها الأمني بلاظوغلي خطوطا حمراء متنوعة. فهي تحافظ بشدة علي صورتها الأمنية الكاسحة. ورغم ذلك فإن حاجز الرهبة من المناطق المغلقة أمنيا قد انكسر بدرجات متفاوتة لدي النشطاء السياسيين والمصريين بصفة عامة أثناء الحراك السياسي في العامين الماضيين. فخرجت المظاهرات للشوارع لأول مرة بعد فترة ركود طويلة لتصل لمقر لاظوغلي ذاته. كان وصول المتظاهرين لهذا المكان تحديدا أعلي نبرة تحد لصوت الداخلية الذي ظل يعلو طويلا علي صوت الجميع. يقول عصام الزهيري - ناشط سياسي": خرجت مع الزملاء للمظاهرة.. بصراحة لم أكن واثقا أنها ستتم وبهذا الحشد. فالداخلية تضع هذا المكان ضمن قائمة الأماكن شديدة الحساسية.. كانت المظاهرة بالنسبة لي أمنية أن أري قدس أقداس الداخلية محاصرا بالمصريين ولو لدقائق".
ورغم أن هذه المظاهرة كانت المرة الأولي التي تكسر فيها المعارضة وبشكل نهائي حالة الرعب من كل ما يخص أمن الدولة ومقارها فإن الشعور العام مع انحسار موجة التظاهرات عاد إلي المربع رقم واحد من جديد. فالوقت الذي شاهد فيه سكان المناطق القريبة من لاظوغلي " الباشوات " مرتبكين أمام المتظاهرين قد انقضي فجأة كما ظهر فجأة وعادت الداخلية من جديد لسياسة الحواجز والحفاظ علي التواجد الكاسح أمام المواطنين الذين واصلوا بدورهم الدوران حول المبني الكئيب لتجنب تقلبات القدر وحرصا علي أمتار قليلة من السلامة.
كوكتيل لاظوغلي: المتحف الحي للمعارضة المصرية
لا يكاد ناشط سياسي أو حقوقي لا يحمل " تذكارا " خاصا من أصحاب المكاتب المكيفة بلاظوغلي. فشهادة تخرج الناشط السياسي تكتب في أماكن عدة لكن ختم الشعار يوقع دائما في لاظوغلي. المكان الذي شهد أكبر عملية استعادة لمعتقلين صدر بحقهم عشرات الأحكام النهائية بالبراءة يطل علي المشهد السياسي المصري ككل. فهناك تجد الشيوعي والإخواني وعضو النقابة العمالية جنبا إلي جنب مع طالب الجامعة والصحفي والداعية. كوكتيل غريب اشتهر به لاظوغلي علي مدي عقود فنفس المكان الذي شهد تعذيب فيه أعضاء الجماعات الإسلامية هو أيضا الذي شهد وضع اللمسات النهائية وختم النسر علي قرارات الإفراج. فقد جمع لاظوغلي في غرف تحقيقه المتخصصة وزنازينه التي تقع بالكامل تحت سطح الأرض جميع أطياف وشرائح المجتمع المصري دون استثناء. فكان بشكل عام يمثل متحفا تاريخيا لتطور الحركات السياسية المعارضة والتي قام لاظوغلي بمحاولات مستمرة لإجهاضها. وعلي الدوام تعامل لاظوغلي مع المعتقلين بوصفهم " أعداء شخصيين " بالمعني الحرفي.
يقول «م. ن » معتقل سابق أفرج عنه منذ ثلاثة أعوام: «زيارتي للاظوغلي لم تنقطع منذ اعتقالي في 1993 فكل حكم بالإفراج يصدر لصالحي يعني ببساطة زيارة تتراوح بين أيام وأسابيع لمقر مباحث أمن الدولة بلاظوغلي. هناك تجد من يناقشك في الفقه والتفسير والحديث والسياسة باحتراف يصيبك بالارتباك. تجد أشخاصا آخرين جاهزين " لتعليمك الأدب ". وبمجرد انتهاء التحقيق في الدور الثاني بلاظوغلي وبنظرة واحدة تنتقل بعيون معصوبة وكلابشات إلي أسفل - حوالي 3 أمتار تحت الأرض - لتدرك أن مرحلة التحقيق انتهت وتبدأ في انتظار الأسوأ " ويضيف «ع. م » أحد المعتقلين السياسيين بلاظوغلي عن ظروف الاعتقال " قبل التحقيقات جمعنا العساكر في زنزانة طويلة مقسمة لثلاث غرف علي شكل حرف L ورغم أننا تحت الأرض فعليا فإنهم استبدلوا الكلابشات الحديدية التي أتينا بها بنوع غريب كالذي يظهر في الأفلام. نوع يضيق باستمرار كلما حاول المعتقل تحريك يده. بعدها يأتي دور التحقيق الذي يستمر لساعات الفجر الأولي ونحن وقوف معصوبو الأعين.. لا أحد ينتظر نتيجة تحقيق أو تحريات فهم يجبرون المعتقلين علي النوم فوق مراتب مبللة وتبدأ جلسات التعذيب بالكهرباء، " يضيف المعتقل السابق " أثناء التحقيق أيضا يحضر طبيب يسأل المعتقلين بضعة أسئلة حول إصابتهم بأمراض معينة خاصة القلب والسكر. وبعد التعذيب أجبروني علي الجلوس عاريا لساعة ثم دهنوا جسمي بمادة كيميائية لا أعرفها وصبوا علينا الماء البارد.. قال لي معتقلون بعد خروجي هذه المواد تمنع آثار التعذيب من الظهور "
ولا تقتصر اعتقالات لاظوغلي علي أفراد الجماعات المسلحة فقط بل تمتد لتضم عددا من رموز المعارضة المدنية فمن هناك انطلقت حملات القبض علي النشطاء المناهضين لغزو العراق في 2003 فتم تجميعهم كيفما اتفق في غرف البدروم. منهم من شاهد التعذيب ومنهم من تعرض له فعليا. فعلي الرغم من التحقيقات المكثفة مع المعتقلين وقتها فإن بعضهم تعرض للضرب والسحل مرات متتالية دون توجيه تهم محددة. ورغم أن العنف الأمني بلغ مداه في مواجهة المتظاهرين مع مطلع الألفية - حتي لو كانت المظاهرات محدودة بنطاق معين كمظاهرات معرض الكتاب مثلا - إلا أن سيناريو العنف في لاظوغلي بدا كشعار لا يمكن التنازل عنه ونوع من " النفحة " لا يجوز بأي حال أن تدخل لاظوغلي دون أن تحصل علي نصيبك منها.
من ناحية أخري فلاظوغلي الذي يعد أحد أبرز " مؤسسات " التعذيب ذات الشهرة العالمية ـ أشارت الجارديان البريطانية لمنافسة بينه وبين جوانتانامو ـ لا يقتصر دوره فقط علي قمع المعارضين بل يمتد عمله في مراحل معينة ليتحول أحيانا لمستودع مضمون للمعتقلين علي سبيل الاحتياط!، تقول زوجة أحد أهالي المعتقلين الحاليين: " زوجي هناك منذ 1996 وحتي اليوم.. لا توجد قضية ولا يحزنون فقط اشتباه في مطار القاهرة ساق زوجي المهندس العائد من أمريكا حيث يعمل لصالح شركة أمريكية شهيرة لبوابة لاظوغلي ومن يومها لم نره.. بحثنا عنه في كل مكان والإجابة كما تعرف واحدة «لا نعرف عنه شيئا » وبالصدفة عرفنا مكانه من بعض المعتقلين المفرج عنهم مؤخرا حيث أخبرونا بأن زوجي «المهندس مدحت صبحي » موجود هناك بصفة دائمة كمشتبه فيه فمره يصنوفونه كقيادي بارز في جماعات إسلامية متعددة ومرة يحققون معه بوصفه شيوعي صميم. آخر مرة حققوا معه كان بسبب وجود اسمه في قوائم الحزب الوطني بحدائق الزيتون وهو عضو بالفعل حيث قدم أوراق العضوية قبل سفره ليعمل مهندسا بهيئة الأبنية التعليمية.. زوجي في لاظوغلي لسبب واحد ـ حسب ما نقله أحد المعتقلين عن أحد الضباط أثناء التحقيق - لأنه لا يوجد ضابط يتحمل مسئولية الإفراج عنه فهو محبوس علي سبيل الاحتياط منذ 12 عاما في انتظار جرة قلم
خريطة الحصار الأمني:الداخلية فوق الجميع
حين وصف " جمال حمدان " القاهرة بأنها " رأس كاسح لجسد كسيح " لم يكن يعبر عن طبيعة الجغرافيا فقط بل ربما كان ينظر لخريطة القاهرة عام 2008، فالعاصمة التي اشتهرت دائما بالقدرة علي تكوين هوية خاصة بها تتجاوز طبيعتها كمدينة حرصت باستمرار علي أن تقدم نفسها كمختصر مفيد لوضع الدولة المصرية ككل.
بعد أحداث الأمن المركزي في منتصف الثمانينيات وحسب ما صرح به مبارك للصحف الكويتية تعليقا علي تظاهرات جنود الأمن. فإن قرارا اتخذ بإعادة النظر في توزيع المقار الأمنية خاصة في القاهرة. ورغم أن الحديث كان يدور حول معسكرات الأمن المركزي فإن نظرة واحدة لمواقع ثلاثة من أشهر المقار الأمنية سيئة السمعة والتي تحتوي جميعها علي سجون خاصة يعطي للمشهد بعدا آخر.
فعلي طريق المطار وبالقرب من بيت الرئاسة يقع مقر إدارة أمن الدولة العليا المعروف باسم " الجهاز " وفي وسط العاصمة تماما يقع لاظوغلي بسطوته ونفوذه فيما يسكن وزير الداخلية بميدان لبنان بالمهندسين علي بعد 15 دقيقة من لاظوغلي. وفي الجنوب يتم إنشاء جابر بن حيان في النقطة الفاصلة بين الجيزة وكل من الشيخ زايد والسادس من أكتوبر حيث منزل رئيس الوزراء أحمد نظيف. في الجنوب وعلي أطراف حلوان توجد سلسلة سجون منطقة " طرة " الشهيرة والمكتظة تاريخيا بألوان الطيف السياسي المصري. وفي المقابل فإن الطريق الدائري بمراكز ومعسكرات الأمن المركزي التي تنتشر علي أجنابه تحيط القاهرة من الغرب والشمال بسياج ضخم من النقاط الأمنية المؤثرة ومن ناحية الغرب تقع أكاديمية مبارك للأمن حيث يدرس طلاب الشرطة والضباط أحدث وسائل " الاستنطاق ". في حين تقع جميع الأحياء السكنية في نطاق تحت سمع وبصر طوق حديدي يتزايد بلا سقف معروف.
تبدو القاهرة الآن كمدينة مخترقة ومحاصرة بامتياز علي مدار الساعة. فالمساحات المتبقية داخل الطوق الأمني ليست أكثر من أماكن للتكدس والزحام والصراعات الضيقة.
أما القاهرة نفسها كعاصمة فمحكومة من الخارج وتدار بالأمر المباشر والريموت كنترول الأمني. فهي ممنوعة من التمدد نحو الصحراء بشكل حقيقي.
فقط يسمح للعاصمة بتكوين " جيوب عمرانية " معزولة كالسادس من أكتوبر. أما المعادلة الرئيسية التي تحكم المدينة فهي ذلك السياج الأمني الذي لا يكتفي بالمحاصرة فقط بل يقطع أجزاءها من الشمال للجنوب والعكس بنقاط أمنية من عينة لاظوغلي وجابر بن حيان والجهاز ليصبح هامش الحياة داخل القاهرة مرهونا علي الدوام بعصا المايسترو الأمنية
بعد الثورة